في غزة عليك التفكير بأشياء كثيرة طرأت ولم تكن من عاداتك سابقاً. وعليك ان تحب ان تقوم بها لأنك لا تملك إلا ان تفعل هذا. وهي عادة لم يكن لك خيار في التعود عليها لكنك قادر على الرغبة في ذلك.
يكفي ان تسير في شوارع غزة خاصة في الليل لكي تسمع صوت المواتير المنتشرة على أبواب المحلات والعمارات وعادة ما تكون مربوطة بجنزير يشدها إلى الجدار أو إلى عامود حديدي، أو تسمع صوت هذه المواتير ينخر من على شرفات البيوت ويهدر مثل قلق لا ينام. وحدها تذكرك بأن غزة تغرق في الظلام رغم أنك قد لا تلاحظه إذ إن الضوء ينتشر في كل ناحية بفعل هذه المواتير. لكنها قادرة على تذكيرك بذلك. والضجيج الكبير ووجع الرأس الذي سيصيبك لابد ان يؤكد عليك بأن تتمنى زوال هذه العادة، وان ترجع الأمور إلى سابق عهدها، وتعود الكهرباء إلى عاداتها القديمة في أن تكون يومية. فهي اليوم ضيف عزيز مدلل بالكاد يزورك بضع ساعات في اليوم، وعليك تدبر باقي يومك وليلك. أنت تستطيع أن تزجي الوقت في النهار وتتحايل على الساعات لأن ثمة ضوءاً تنشره الشمس من عينها في السماء، أما في الليل فليس لك من حيلة إلا التفكير في ضرورة أن تحفر الأرض لعل عيناً من الكهرباء تتفجر وتضيء العتمة. وهل يحدث!!
في الليل وحين تحاول النوم بعد ان تتأكد أنك أطفأت كل البيت خشية ان تأتي الكهرباء خلال الليل وأنت تغط في نوم عميق، عليك ان تتحمل وتتحمل الأصوات التي تنخر دماغك وتقض مضجعك، وقد تسب على جارك "اللي ماعندوش زوق" يترك ماتوره يقرقر طوال الليل وتستغرب بماذا تراه يستخدم الكهرباء بعد منتصف الليل. كان أجدر به أن يفكر بجيرانه وبالأطفال وكبار السن وبالمرضى الذين يحتاجون للنوم. ومع الوقت عليك ان تتأقلم مع عدم اكتراثه هذا، فأنت لا تملك حيلة فالأمر غير مقصور عليه. إذ إنك ستجد صعوبة في تحديد مصدر الماتور الذي يقرقر في دماغك تحديداً. أفضل شيء أن تنام وكأن الأشياء عادية جداً، وهي ليست كذلك.
وقد تقفز من النوم مذعوراً (أولها بس) حين تبدأ أصوات الغسالات في العمارة تدور مواتيرها وهي تعصر الملابس فالجارات سيستيقظن مع الكهرباء، (لما تيجي) ربما عند الفجر وربما قبل ذلك او بعده ليستغللن وجودها العزيز في إكمال أعمالهن البيتية. فالمواتير في أغلبها لا تقوى على تشغيل غسالة الكهرباء.
كم من الوقت تستطيع مقاومة الرغبة او الحاجة او إلحاح الأطفال في شراء ماتور خاص بك. خذ وقتك، لكن هذا الوقت لن يطول إذ إن عادة اقتناء ماتور تجتاح غزة. حاجة! ربما. لكنك في نهاية الامر لابد أن تدخل الملعب وتلعب مثل الآخرين. قبل ان تشترى ماتوراً ستسمع عشرات القصص عن بيوت احترقت واطفال قتلوا جراء سوء الاستخدام أو قلة الخبرة او دخول التيار العادي داخل تيار الماتور. وحيث إن المواتير المتوفرة يدوية فالأمر يقع عليك في تشغيله (ليس أوتوماتيكاً) واطفائه وصيانته وكل شيء. عموماً ستذهب متردداً إلى المحلات الكثيرة المتناثرة في كل بقاع المخيم والمدينة تنشر بضاعتها الموسومة بالتراب والطين (العلامة التجارية التي تقول إنها قادمة فوراً من فم النفق). الحيرة أمر ضروري وحتمي. ستفكر ملياً وستعود أدراجك للبيت لتسأل أصدقاءك وأقرباءك عن تجربتهم مع هذه المواتير. وستسمع عشرات القصص والنصائح لا تشترِ كذا واشترِ كذا، وإياك وذاك وعليك بهذا. قصص كثيرة ونصائح سيذهلك كم تتعارض في جوهرها مع بعضها البعض وإن تقاطعت.
بعد ان تشتري ماتورك لابد أن تتعلم كيف تستخدمه وهي عادة جديدة يجب أن تقوم بها جيداً. تنزّل أمّان الكهرباء في البيت ثم تشبك السلك من الماتور لأقرب قابض بعد ذلك تأكد من تحريك صمام الأمان يميناً ورفع إشارة التشغيل ومن ثم شد الحبل يدوياً حتى يبدأ الماتور بالقرقرة عندها تعيد صمام الأمام يساراً. وإياك ان تقوم بتحميل الماتور أكثر من طاقته: مثلاً تقوم بتشغيل مسخن للماء عندها سيهتز الماتور غضباً وقد ينحرق وتتسبب فيما لا تحمد عقباه.
خلال ذلك عليك دائماً أن تتأكد من وجود بنزين جاهز ليحرقه الماتور. واحذر أن تسكب البنزين حول الماتور فتقوم بالخطأ بإشعال سيجارة وترمي بها على الأرض فينفجر الماتور بك وبالبيت. عليك أن تنتبه جيداً لعاداتك الجديدة فهي قد تكلفك غالياً. وخلال كل ذلك لا تنس ان تتفقد دائماً اسطوانة الغاز وتتأكد بأن ثمة اسطوانة أخرى موجودة عند الرجل الذي يعبئ اسطوانات الحارة (المتعهد) وكم ستكون محظوظاً لو ابتسم لك وعاملك بلطف إذ إن اسطوانتك ستقفز عن الدور وقد تأتيك بعد شهر حاملاً منفوخة بالغاز. وعليه التأكد من ان تبتسم له وتحييه كي لا يغضب ولا يسخط عليك. وإلا ستضطر للعودة للبابور.
أيضاً عليك ان لا تنسى أمر البابور: تأكد من أن هناك بابورين في البيت وأن ثمة كازاً لهما مخبأ في سدة البيت أو في مكان آمن وأن هناك فتائل وإبرة. انت لابد تعرف كيف تستخدم البابور خاصة بعد تجربة العدوان الأخير. وعليك الا تنسى التجربة وتظن أن الامور قد لا تعود. فيكفي ان تقطع الكهرباء ليومين وتكون اسطوانة غازك عزيزة ولا أخت لها في البيت حتى تضطر لتشغيل البابور لتسخن ماء لتنظف جسدك الذي لم ير الماء منذ يومين. ماذا تملك أن تفعل إلا أن تبتسم في وجه البابور وتحب ما تقوم به. وتذكر أن تحاول خلق نمط روتيني متى تقطع الكهرباء ومتى تأتي حتى تنظم وقتك وعاداتك. (عموماً شركة الكهرباء لن تمنحك هذا الامتياز على أي حال).
ودائماً تسأل نفسك ليس صحيحاً أن الجميع يقوم بذلك، وتسأل بقلق إن كان لابد من هذه المعاناة ومن يقرر أن عليك ان تعاني وأنت تضع بنزيناً و"ماتوراً" و"بابوراً" و"كازاً" في بيتك قلقاً على أطفالك. من يقرر ذلك. وهل من يقرر ذلك مثلك يقلق على أطفاله او أنهم مثل أطفالك عرضة لأي مكروه جراء هذه العادات الجديدة.